كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **


<تنبيه> قال بعض المحققين‏:‏ قد تتخذ البطلة أمثال هذه الأخبار ذريعة إلى طرح التكاليف وإبطال العمل ظناً أن ترك الشرك كاف وهذا يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود وأن الترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية لا أثر له فتفضي إلى الانخلاع من الدين وانفكاك قيد الشريعة والخروج عن الضبط والولوج في الخبط وترك الناس سدى هملاً وذلك مفض إلى خراب الدنيا والآخرة مع أن قوله في بعض طرق الحديث ‏"‏أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً‏"‏ يتضمن اشترط العمل فيجب ضم بعض الأحاديث إلى بعض فإنها كالحديث الواحد فيحمل مطلقها على مقيدها انتهى‏.‏ وهذه قعقعة لا حاجة إليها مع ما قررناه أنفاً أن كل من مات مؤمناً دخل الجنة فإن كان تائباً أو سليماً من المعاصي دخلها وحرم على النار وإلا فيقطع بدخوله الجنة آخراً وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه كما قال النووي أنه مذهب أهل السنة، قال الطيبي‏:‏ وهو قانون عظيم في الدين وعليه مبني قواعد الجماعة أن الحسن والقبح شرعيان وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد

- ‏(‏ق عن أبي ذر‏)‏ قال‏:‏ واللفظ للبخاري‏.‏ سببه ‏"‏كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة بالمدينة فاستقبلنا أحداً فقال‏:‏ يا أبا ذر ما يسرني أن عندي مثل هذا ذهباً يمضي عليّ ثلاث وعندي منه دينار إلا شيء أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله وخلفه ثم قال‏:‏ مكانك لا تبرح حتى آتيك ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى فسمعت صوتاً قد ارتفع فتخوفت أن يكون أحد عرض له فأردت أن أتبعه فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني فقلت‏:‏ سمعت صوتاً تخوفت منه قال‏:‏ وهل سمعته قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ ذاك جبريل أتاني‏"‏ فذكره‏.‏

79 - ‏(‏أتاني جبريل‏)‏ في حجة الوداع ‏(‏فقال يا محمد كن عجاجاً‏)‏ رافعاً صوتك بالتلبية ‏(‏ثجاجاً‏)‏ بالتشديد فيهما سيالاً لدماء الهدي بأن تنحرها أو المراد الأمر بالحج نفسه أي حج الحج الذي فيه العج الثج وأراد بهما الاستيعاب فابتدأ بالإحرام الذي هو الإهلال وختم بالتحلل الذي هو إهراق دماء الهدي فاقتصر بالمبدأ والمنتهى عن جميع الأعمال‏.‏ والمعنى كن حاجاً حجاً تستوعب فيه جميع أعماله من أركان وشروط وآداب‏.‏ أفاده بعض الأعاظم‏.‏

- ‏(‏حم والضياء‏)‏ المقدسي وكذا الطبراني وابن لال والديلمي ‏(‏عن السائب بن خلاد‏)‏ ابن سويد الخزرجي الكعبي المدني له صحبة ولي إمارة اليمن لمعاوية‏.‏ قال الهيتمي‏:‏ فيه ابن اسحاق ثقة لكنه مدلس‏.‏

80 - ‏(‏أتاني جبريل فقال يا محمد‏)‏ صرح باسمه تلذذاً بذكره وتيمناً وإشعاراً بكونه محموداً في الملأ الأعلى ‏(‏كن عجاجاً بالتلبية‏)‏ أي رافعاً صوتك بقول لبيك اللهم لبيك أي إجابة بعد إجابة ولزوماً لطاعتك بعد لزوم فالتثنية للتأكيد لا تثنية حقيقية وأصل التلبية إجابة النداء‏.‏ وهي من آداب الخطاب تدل على تعظيم الداعي في إجابته ‏(‏ثجاجاً بنحر البدن‏)‏ المهداة أو المجعولة أضحية ‏"‏والعج‏"‏ بفتح المهملة وشد الجيم رفع الصوت بالدعاء أو غيره، ‏"‏والثج‏"‏ بفتح المثلثة وشد الجيم إراقة دم الذبيحة ‏"‏والبدنة‏"‏ من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة للذكر والأنثى‏.‏ وفيه كالذي قبله ندب رفع الصوت بالتلبية في النسك للرجل لكن بحيث لا يتأذى ولا يؤذي وإلا كره لخبر‏:‏ ‏"‏اِرْبَعوا ‏[‏اِرْبَعوا‏:‏ بهمزة وصل وفتح الباء، كما في شرح مسلم للنووي‏.‏ دار الحديث‏]‏على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً‏"‏ ويكثر منها مادام محرماً وتتأكد لتغاير الأحوال كصعود وهبوط واجتماع وافتراق وبعد كل صلاة ولو نفلاً وإقبال ليل أو نهار، وتقتصر المرأة والخنثى على إسماع نفسها فإن جهرت كره ولا يزيد على تلبية المصطفى وهي‏:‏ ‏"‏لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك‏"‏ فإن زاد لم ‏[‏ص 97‏]‏ يكره عند الشافعي ‏(‏القاضي عبد الجبار‏)‏ بن أحمد الهمداني‏.‏ قال الرافعي‏:‏ ولي قضاء قزوين وغيرها واعتنى به الصاحب ابن عباد وسأله تقليداً أطنب فيه كعادته وكان شافعياً في الفروع معتزلياً في الأصول وأملى عدة أحاديث وصنف كثيراً في التفسير والكلام‏.‏ قال الخليل‏:‏ كنيت عنه وكان ثقة في حديثه لكنه داع إلى البدعة لا تحل الرواية عنه‏.‏ وقال التوحيدي‏:‏ خبيث المعتقد قليل اليقين انتهى‏.‏ وبه ضعف الحديث ‏(‏في أماليه‏)‏ الحديثية

- ‏(‏عن ابن عمر‏)‏ بن الخطاب وكذا رواه عنه الإمام الرافعي في تاريخ قزوين بإسناده ولو عزاه المؤلف إليه لكان أولى‏.‏

81 - ‏(‏أتاني جبريل فأمرني‏)‏ عن الله تعالى بدليل الرواية الآتية أمر ندب ‏(‏أن آمر أصحابي ومن معي‏)‏ عطفه على أصحابه دفعاً لتوهم أن مراده بهم من صحبه وعرف به لطول ملازمته وخدمته دون من رافقه واتبعه وقتاً ما، فجمع بينهما ليفيد أن مراده بهم من صحبه ولو في وقت حتى من لم يره إلا مرة فالعطف لزيادة الاهتمام بشأن تعليمهم إذ من قرب عهده بالإسلام أو بالهجرة أحق بتأكيد الوصية والتعريف بالسنة والإعلام بالأحكام وأما الخواص فمظنة الإطلاع على خفايا الشريعة ودقائقها واحتمال إرادة المعية في الدين ساقط وفي رواية لمالك والشافعي أو من معي بأو بدل الواو شك من الراوي وتجوز ابن الأثير كون الشك من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نوع سهو ولا يعصم عنه ركيك متعسف ‏(‏أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية‏)‏ إظهاراً لشعائر الإسلام وتعليماً للجاهل ما هو مندوب في ذلك المقام‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وذلك أنهم كانوا يوقرون المصطفى ويمتثلون ما أمروا به من خفض الصوت في التكبير والتسبيح في السفر فاستثنى لهم التلبية من ذلك فصاروا يرفعون أصواتهم بها جدا روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح كما في الفتح كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم وأخرج أيضا بإسناد صحيح عن بكر المزني كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين قالوا‏:‏ ومعنى التلبية كما في حديث ابن عباس وغيره إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج فأجابوه وهم في الأصلاب والأرحام ومن لم يجبه لم يحج وفيه مشروعية التلبية تنبيهاً على إكرام الله لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه وقوله بالتلبية هي رواية النسائي وفي رواية الترمذي وابن ماجه بدله بالإهلال ولأبي داود بالتلبية أو بالإهلال يريد أحدهما

- ‏(‏حم 4 حب ك‏)‏ وصححه ‏(‏هق‏)‏ وكذا مالك والشافعي والضياء في الحج ‏(‏عن السائب بن خلاد‏)‏ بن سويد الخزرجي قيل بدري واعترض قال الترمذي‏:‏ حسن صحيح قال ابن العربي‏:‏ هذا مع أنه رواه موسى بن عقبة عن المطلب فربك أعلم، فلذلك لم يدخله البخاري في صحيحه وأدخل حديث أبي قلابة عن أنس وقال ابن حجر‏:‏ رجاله ثقات لكن اختلف على التابعي صحابيه‏.‏

82 - ‏(‏أتاني جبريل فقال لي‏:‏ إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك‏)‏ ندباً ‏(‏أن‏)‏ أي بأن ‏(‏يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج‏)‏ أي من أعلامه وعلاماته وأعماله الواحدة شعيرة أو شعارة بالكسر والمشاعر مواضع النسك وقال الزمخشري أعلام الحج وأعماله وكما أنها من شعار الحج هي من شعار العمرة واقتصر عليه لأنه قاله عند إحرامه بحجة الوداع وأخذ أبو حنيفة بظاهر هذا الخبر وما قبله أن الحج لا ينعقد بدون تلبية وسوق هدي وقياساً على الصلاة ورد الشافعية الأول بأن الأمر للندب وإلا لزم الصوت والثاني بأنه قياس مع وجود الفارق، إذ القصد من الصلاة الذكر

- ‏(‏حم ه حب ك‏)‏ وكذا أبو يعلى وابن خزيمة والطبراني والبيهقي والضياء ‏(‏عن زيد بن خالد‏)‏ الجهني‏.‏

‏[‏ص 98‏]‏ 83 - ‏(‏أتاني جبريل فقال‏:‏ إن ربي وربك‏)‏ المحسن إليّ وإليك بجليل التربية المزكي لي ولك بجميل التزكية، وفي الإضافة تشريف أي تشريف وكما تفيد إضافة العبد إليه سبحانه تشريفه فكذا إضافته إليه تعالى تفيده بل ذلك أقوى إفادة ‏(‏يقول لك‏)‏ أطنب بزيادة لك لينبه على كمال العناية ومزيد الوجاهة عنده والرعاية‏.‏ وفي المعالم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن معنى ورفعنا لك ذكرك فقال‏:‏ قال الله لا أذكر إلا ذكرت معي فكأنه بعد السؤال جاء وقال إن ربي وربك إلى آخره ‏(‏تدري‏)‏ مستفهم عنه حذفت همزته تخفيفاً لكثرة وقوعها في الاستفهام أي أتدري ‏(‏كيف رفعت ذكرك‏)‏ أي على أي حال وكيفية رفعته إذ كيف اسم مبهم يستفهم به عن الحال والرفع من الرفعة وهي الشرف وارتفاع القدر والذكر إجراء اللفظ المعرب عن الشيء على لسان المتكلم وهو بكسر الذال وهذا الكلام بعد السؤال عنها من قبيل الانبساط مع المحبوب ولأجل زيادة التوجه والانتظار قال‏:‏ ‏(‏قلت‏)‏ في رواية فقلت‏:‏ ‏(‏الله أعلم‏)‏ أي من كل عالم وفيه ردٌّ على من كره أن يقال‏:‏ والله أعلم مطلقاً أو عقب ختم نحو الدرس ولا إبهام فيه خلافاً لزاعمه بل هو في غاية التفويض المطلوب وحسبك في الرد عليه قوله سبحانه ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ وقد قال الإمام علي كرم الله وجهه‏:‏ وأبردها على كبدي إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم ولا يعارضه ما في البخاري أن عمر سأل الصحب عن سورة النصر فقالوا الله أعلم فغضب وقال قولوا نعلم أو لا نعلم لأنه فيمن جعل الجواب له ذريعة إلى عدم إخباره عما سئل عنه وهو يعلم ‏(‏قال لا أذكر‏)‏ مجهول المتكلم ‏(‏إلا ذكرت‏)‏ مجهول المخاطب ‏(‏معي‏)‏ أي كثيراً أو عادة أو في مواطن معروفة كالخطب والتشهد والتأذين فلا يصح شيء منها من أحد حتى يشهد أنه رسوله شهادة تيقن، وأي رفع أعظم من ذلك‏؟‏ وبتأمله يعرف اندفاع الاستيعاب بأن الشهادة الثانية قد لا تذكر فتدبر

- ‏(‏ع حب‏)‏ وابن عساكر والرهاوي في الأربعين ‏(‏والضياء‏)‏ المقدسي ‏(‏في‏)‏ كتاب ‏(‏المختارة‏)‏ مما ليس في الصحيحين ‏(‏عن أبي سعيد‏)‏ الخدري، ورواه عنه الطبراني باللفظ المذكور، قال الهيتمي‏:‏ وإسناده حسن‏.‏

84 - ‏(‏أتاني جبريل‏)‏ قال في الربيع ويقال له طاوس الملائكة وكان هذا الإتيان في المدينة كما ذكره ابن الأثير ‏(‏في خضر‏)‏ بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين لباس أخضر وروي بسكون الضاد ممدوداً ذكره الهروي كالقاضي ‏(‏تعلق‏)‏ بمثناة فوقية فمهملة فلام مشددة فقاف مفتوحات ‏(‏به‏)‏ أي الخضر ‏(‏الدر‏)‏ بضم المهملة اللؤلؤ العظام أي جاءني في لباس أخضر تعلق به اللؤلؤ العظام بأن تمثل له بتلك الهيئة الحسنة وذلك المنظر البهيج البهي فكان يأتيه على هيئات كثيرة ورآه مرتين بصورته الأصلية بست مئة جناح كل جناح يسد ما بين الخافقين وكان يأتيه بصورة دحية وتمثل بمكة بصورة فحل من الإبل فاتحاً فاه ليلتقم أبا جهل‏.‏ واختلف في هذه التطورات فقيل إن الله يفني الزائد من خلقه وقيل مجرد تخلييل للرائي وقيل بالتداخل، وقال الراغب‏:‏ والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد إلى السواد أقرب فلهذا سمي الأسود أخضر وعكسه وقيل سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة فإن قلت‏:‏ هل لتمثله له في لباس أخضر دون غيره من الألوان من حكمة‏؟‏ قلت‏:‏ أجل وهي الإشارة إلى أنه كثير الخير والبركة وأن بينه وبينه مودة متأكدة وصداقة ثابتة وهي في كل وقت متجددة وإن ذلك العام خصب وربيع، ألا ترى إلى قول الزمخشري من المجاز فلان أخضر كثير الخير والأمر بيننا أخضر جديد لم يخلق والمودة بيننا خضراء‏؟‏ انتهى

- ‏(‏قط في‏)‏ كتاب ‏(‏الإفراد‏)‏ وكذا أبو الشيخ ‏[‏ابن حبان‏]‏ في العظمة ‏(‏عن ابن مسعود‏)‏ وضعفه‏.‏

‏[‏ص 99‏]‏ 85 - ‏(‏أتاني جبريل فقال إذا توضأت‏)‏ من الوضاءة وهي الحسن والنضارة والوضوء بالضم الفعل وبالفتح الماء الذي يتوضأ به وهل المراد أنه اسم للماء مطلقاً أو للمعد للوضوء أو لما استعمل في أعضائه‏؟‏ خلاف ‏(‏فخلل‏)‏ ندباً مؤكداً ‏(‏لحيتك‏)‏ من التخليل وهو تفريق الشعر ونحوه وأصله إدخال الشيء في خلال الشيء وهو وسطه فيندب تخليل لحية الذكر الكثة، والأفضل كونه بأصابع يمناه ومن أسفل، ونبه بذكر اللحية على ندب تخليل كل شعر يجب غسل ظاهره فقط لكن يستثنى المحرم فلا يخلل إلا إن أمن انتتاف شيء من شعره يقيناً ويأتي إن شاء الله تعالى في عدة أحاديث ندب تخليل أصابع اليدين والرجلين أيضاً ويظهر أن تخليل اللحية آكد لاختصاره عليها هنا

- ‏(‏ش‏)‏ وكذا ابن عدي وغيره ‏(‏عن أنس‏)‏ رمز لحسنه وهو زلل فقد قال ابن حجر بعد عزوه لابن أبي شيبة وابن ماجه وابن عدي في إسناده ضعف شديد هذه عبارته وقال ابن الهمام وهو معلول لكن يقويه بعض قوة ما رواه ابن منيع والديلمي عن أنس أيضاً أتاني جبريل فأمرني أن أخلل لحيتي عند الطهور وفيه الهيثم بن حماد عن الرقاشي قال النسائي وغيره وهما متروكان قال الكمال وللتخلل طرق منكرة عن أكثر من عشرة من الصحابة وبها يتقوى‏.‏

86 - ‏(‏أتاني جبريل بقدر‏)‏ أي بطعام في قدر ويأتي في خبر أنه هريسة وهي لحم وقمح يطبخان معاً كما في الوشاح وزاد في رواية ذكرها في الأصل كغيره يقال لها الكفيت بالتصغير والقدر بكسر فسكون إناء يطبخ فيه وهي مؤنثة وتصغيرها قدير بلا هاء على غير قياس ‏(‏فأكلت‏)‏ أي فقال كل فأكلت ‏(‏منها‏)‏ أي مما فيها وكان من طعام الجنة لما رواه أبو نعيم في الطب بإسناد رواه عن معاذ قيل يا رسول الله هل أتيت من طعام الجنة بشيء قال نعم أتاني جبريل بهريسة فأكلتها فزادت قوتي قوة أربعين رجلاً في النكاح ‏(‏فأعطيت قوة‏)‏ أي قدرة ‏(‏أربعين‏)‏ فهي صدقة الاقتدار على الشيء والقوة من أعلى صفات الكمال قال تعالى في صفة جبريل ‏{‏ذي قوة‏}‏‏.‏ ‏(‏رجلاً‏)‏ في بعض الروايات حذف المميز وهذه الرواية تفسره وفي رواية زيادة من أهل الجنة والرجل الذكر من بني آدم وقد يقال للجن أيضاً بخلاف الملك فقد قال ابن حجر كبعض المتقدمين الملائكة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً فلا يقال لهم رجال وأما الجن فيتوالدون فلا يمتنع أن يقال لهم رجال ‏(‏في الجماع‏)‏ زاد أبو نعيم عن مجاهد وكل رجل من أهل الجنة يعطى قوة مئة وصححه الترمذي وقال غريب وأربعون في مئة بأربعة آلاف ‏(‏فإن قلت‏)‏ هل للتمدح بكثرة الجماع للنبي صلى الله عليه وسلم من فائدة دينية أو عقلية لا يشاركه فيها غير الأنبياء من البرية‏؟‏ قلت‏:‏ نعم بل هي معجزة من معجزاته السنية إذ قد تواتر تواتراً معنوياً أنه كان قليل الأكل إذ الرحم يجذب قوة الرجل ولا يجبر ذلك النقص إلا كثرة الغذاء فكثرة الجماع لا تجامع قلة الغذاء عقلاً ولا طباً ولا عرفاً إلا أن يقع على وجه خرق العادة فكان من قبيل الجمع بين الضدين وذلك من أعظم المعجزات فتدبر ثم رأيت بعضهم قال كان النبي صلى الله عليه وسلم القوة الظاهرة على الخلق في الوطء وكان له في الأكل القناعة ليجمع الله له الفضلين في الأمور الاعتيادية كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية ليكون كاملاً في الدارين حائزاً للفخرين ‏(‏فإن قلت‏)‏ إذا كان الجماع مما يمتدح بكثرته فكان القياس أن لا يقتصر منهن على تسع وقد كان لسليمان ألف حليلة وما من فضيلة أوتيها نبي إلا وقد أوتي جامع الرسل مثلها أو أعلى‏؟‏ قلت‏:‏ قلة عدد النسوة مع كثرة الجماع أظهر في المعجزة لأن كثرته في قليلهن أقوى من الكثير في الكثير بشهادة الوجدان قيل‏:‏ وفيه أن له الزيادة على تسع لأنه لما أعطي قوة ما ذكر من العدد فله التزوج بقدر ما أعطي من القوة وليس في محله إذ العدد القليل منهن يكفي العدد الكثير من الرجال ثم إنه لم يبين هذا المأكول الذي في القدر وبينه في خبر الدارقطني عن جابر وابن عباس ‏[‏ص 100‏]‏ مرفوعاً‏:‏ أطعمني جبريل الهريسة أشد بها على ظهري وأتقوى بها على الصلاة انتهى، قال الذهبي‏:‏ وهو واه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ضعيف جداً بل ألف الحافظ ابن ناصر الدين فيه جزءاً ذكر فيه أنه موضوع سماه رفع الدسيسة عن أخبار الهريسة ‏.‏

<تنبيه> أخذ بعضهم من هذا الحديث أنه يندب للرجل تناول ما يقوي شهوته للوقاع كالأدوية المقوية للمعدة لتعظم شهوتها للطعام وكالأدوية المثيرة للشهوة ورده الغزالي بأن المصطفى إنما فعل ذلك لأنه كان عنده منهن العدد الكثير ويحرم على غيره نكاحهن إن طلقهن فكان طلبه القوة لهذا المعنى لا للتلذذ والتنعم وبأنه لا يشتغل قلبه عن ربه بشيء فلا تقاس الملائكة بالحدادين قال وما مثال من يفعل ما يعظم شهوته إلا كمن بلي بسباع ضارية وبهائم عادية فينام عنه أحياناً فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بعلاجها وإصلاحها فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يراد التخلص منها والتداوي لدفعها عند كمل المؤمنين وأساطين المتقين ووجوه العارفين‏.‏

- ‏(‏ابن سعد‏)‏ في طبقاته ‏(‏عن صفوان بن سليم‏)‏ الزهري التابعي ‏(‏مرسلاً‏)‏ هو الإمام القدوة ممن يستشفى بذكره قيل لم يضع جنبه الأرض منذ أربعين سنة ومناقبه سائرة والحديث وصله أبو نعيم والديلمي من حديث صفوان عن عطاء عن أبي هريرة يرفعه ورواه الخطيب وابن السني في الطب عن حذيفة مرفوعاً ثم إن فيه سفيان بن وكيع قال الذهبي عن أبي زرعة متهم بالكذب وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ونازعه المؤلف بما حاصله أن له شواهد‏.‏

87- ‏(‏أتاني جبريل في أول ما أوحي إليّ‏)‏ وذلك عند انصرافه من غار حراء كما في الدلائل وغيرها ‏(‏فعلمني الوضوء‏)‏ بالضم استعمال الماء في الأعضاء الأربعة بالنية عند الشافعية وكذا بدونها عند الحنفية ‏(‏والصلاة‏)‏ الأذكار المعروفة والأفعال المشهورة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم وأصلها الدعاء قال الله تعالى ‏{‏وصل عليهم‏}‏ أي ادع لهم وفيما نقله الشرع إليه باشتمال على الدعاء قال في الوفاء لم يذكر كيفية الصلاة في هذا الحديث وقد ذكر في حديث البراء أنها ركعتان وهذه الصلاة كانت نفلاً لأن الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء وقيل بل فرضت الصلاة قبله ركعتين قبل غروب الشمس وركعتين قبل طلوعها ثم فرضت الخمس ليلة الإسراء وهو مروي عن عائشة وغيرها وقيل بل المراد بالصلاة هنا التهجد فإنه فرض عليه ثم نسخ قال السهيلي‏:‏ فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض مدني بالتلاوة لأن آية الوضوء كانت قبل فرض الصلاة يعني الصلوات ليلة الإسراء قال‏:‏ ويقويه قوله في خبر فيه لين أن جبريل علمه إياه حين نزول الوحي عليه في غار حراء وقال‏:‏ ويؤيده ما في أخبار صحاح أن من قبلنا كانوا يتوضؤن للصلاة كما في قصة سارة والراهب ‏(‏فلما فرغ الوضوء‏)‏ أي أتمه ‏(‏أخذ غرفة من الماء‏)‏ قال ابن حجر في المختصر‏:‏ وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف ‏(‏فنضح‏)‏ وفي رواية فرشّ ‏(‏بها فرجه‏)‏ يعني رش بالماء الإزار الذي يلي محل الفرح من الآدمي لأن جبريل ليس له فرج إذ الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث كما مر فيندب رش الفرج عقب الوضوء لدفع الوسوسة وفي رواية ذكرها ابن سيد الناس وجهه بدل فرجه وفي رواية الفرج، والنضح الرش والفرج أصله فرجة بين شيئين ثم كنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح فيه

- ‏(‏حم قط ك‏)‏ وكذا الحارث بن أبي أسامة ‏(‏عن أسامة‏)‏ بضم الهمزة ‏(‏ابن زيد‏)‏ حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه ‏(‏عن أبيه زيد‏)‏ بن حارثة الكلبي مولى الرسول من السابقين الأولين استشهد يوم مؤتة سنة ثمان رمز المؤلف لصحته وليس كما ظن فقد أورده ابن الجوزي في العلل عن أسامة عن أبيه من طريقين في أحدهما ابن لهيعة والأخرى رشدين وقال ضعيفان قال والحديث باطل وقال مخرجه الدارقطني فيه ابن لهيعة ضعفوه وتابعه رشدين وهو ضعيف لكن يقويه كما قال بعض الحفاظ أورده من طريق ابن ماجه بمعناه وروى نحوه عن البراء وابن عباس أما الصحة فلا فلا‏.‏

‏[‏ص 101‏]‏ 88 - ‏(‏أتاني جبريل في ثلاث‏)‏ أي ثلاث ليال ‏(‏بقين‏)‏ هي لغة عدي بن رباب فجعلوا كل يوم ليلة إذ التاريخ بالليالي فإن أول الشهر ليلته قالوا‏:‏ وليس في العربية محل غلب فيه المؤنث على المذكر إلا في التاريخ ‏(‏من ذي القعدة‏)‏ بفتح القاف وتكسر سمي به لأن العرب قعدت فيه عن القتال تعظيماً له قال ابن حجر‏:‏ وفيه استعمال الفصيح في التاريخ وهو أنه ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرخ بما خلا وإذا دخل النصف الثاني يؤرخ بما بقي ‏(‏فقال دخلت العمرة‏)‏ أي أعمالها ‏(‏في‏)‏ أعمال ‏(‏الحج‏)‏ لمن قرن فكيفية أعمال الحج عنها أو دخلت في وقته وأشهره بمعنى أنه يجوز فعلها فيها وأهل الجاهلية كانوا يرون أن فعلها فيها من أفجر الفجور فأبطله الشرع هذا هو الظاهر المتبادر من فحوى الخبر وتأوله المالكية كالحنفية على معنى سقوط وجوب العمرة بوجوب الحج كما سقط عاشوراء برمضان أي أن الحج أغنى عما دونه فلا يجب وعرض بأن ذلك وإن كان محتملاً لكنه محتمل أيضاً لأن يكون إشارة إلى القرآن وإلى جواز إيقاعها في أشهر الحج وأنه لا يقبل النسخ ويرشحه ختمه بالتأييد الآتي فحيث تطرق الاحتمال سقط الاستدلال وبقيت أدلة أخرى تدل للوجوب كآية ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ ويستمر هذا ‏(‏إلى يوم القيامة‏)‏ أول خراب الدنيا وانقراض المؤمنين بالريح الطيبة أي ليس هذا الحكم مختصاً بهذا العام بل عام في جميع الأعوام ويلوح من فحواه أن يوم القيامة من الدنيا بمعنى أنه خاتمها ولا يعارضه خبر أشفع يوم القيامة لأن صدره من الدنيا وآخره من الآخرة كما صرح به ما رواه المزني في التهذيب أن الحجاج سأل عكرمة عن يوم القيامة أمن الدنيا أم من الآخرة فقال صدره من الدنيا وآخره من الآخرة

- ‏(‏طب عن ابن عباس‏)‏ رمز المؤلف لحسنه ‏(‏قلت‏)‏ كما قال بعضهم ‏(‏هذا‏)‏ أي قوله ثلاث إلى آخره ‏(‏أصل‏)‏ يستدل به ‏(‏في‏)‏ مشروعية ‏(‏التاريخ‏)‏ وهو تعريف الوقت من حيث هو وقت والإرخ بكسر الهمزة الوقت يقال أرخت الكتاب يوم كذا وقته به وأرخه وورخه بمعنى ذكره في الصحاح وقيل هو قلب التأخير وقيل معرب لا عربي وقال الصولي‏:‏ تاريخ كل شيء غايته ووقته الذي ينتهي إليه ومنه قيل فلان تاريخ قومه أي إليه ينتهي شرفهم وعرف عرفاً بأنه توقيت الفعل بالزمان ليعرف ما بين قدر ابتدائه وأي غاية فرضت له وقيل هو عبارة عن يوم ينسب إليه ما يأتي بعده وقيل عبارة عن مدة معلومة تعد من أول زمن مفروض لتعرف الأوقات المحددة فلا غنى عن التاريخ في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية ثم إن ما ذكره من أن هذا أصله مراده به من أصوله وإلا فقد وقع الاستدلال بالتاريخ في النص القرآني ‏{‏ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏}‏ وتفردت العرب بأنها تؤرخ بالسنة القمرية لا الشمسية فلذلك تقدم الليالي لأن الهلال إنما يظهر ليلاً قال ابن الجوزي‏:‏ ولما كثر بنو آدم أرخوا بهبوطه فكان التاريخ إلى الطوفان ثم إلى نار الخليل ثم إلى زمن يوسف ثم إلى خروج موسى من مصر ببني إسرائيل ثم إلى زمن داود ثم سليمان ثم عيسى وقيل أرخت اليهود بخراب بيت المقدس والنصارى برفع المسيح وأما تاريخ الإسلام فروى الحاكم في الإكليل عن الزهري معضلاً أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول وروى أيضاً الحاكم وغيره أن عمر جمع الناس في خلافته سنة سبع عشرة فقال بعضهم أرخ بالبعث وقال بعضهم بالهجرة فقال الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فاتفقوا عليه ولم يؤرخوا بالبعث لأن في وقته خلافاً ولا من وفاته لما في تذكره من التألم لفراقه ولا من وقت قدومه المدينة وإنما جعلوه من أول المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه إذ البيعة كانت في ذي الحجة وهي مقدمة لها وأول هلال هل بعدها المحرم ولأنه منصرف الناس من حجهم فناسب جعله مبتدأ وفوائد التاريخ لا تحصى منها أنه وقع في زمن الخطيب البغدادي أن يهودياً أظهر كتاباً فيه أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أسقط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادة جمع منهم على ذلك فوقع التنازع فيه فعرض على الخطيب فتأمله ثم قال‏:‏ هذا زور ‏[‏ص 102‏]‏ لأن فيه شهادة معاوية وإنما أسلم عام الفتح وفتح خيبر سنة سبع وشهادة سعد بن معاذ وكان مات عقب قريظة ففرح الناس بذلك‏.‏

89 - ‏(‏أتاني جبريل فقال‏)‏ لي ‏(‏يا محمد‏)‏ خاطبه به دون رسول الله أو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المناسب لمقام الوعظ والتذكير والإيذان بفراق الأحباب والخروج من الدنيا ودخول الآخرة والحساب والجزاء وبدأ بذكر الموت لأنه أفظع ما يلقاه الإنسان وأبشعه فقال ‏(‏عش ما شئت فإنك ميت‏)‏ بالتشديد والتخفيف أي آيل إلى الموت عن قرب فهو مجاز باعتبار ما يكون في المستقبل قريباً قطعاً ‏(‏وأحبب‏)‏ بفتح الهمزة وكسر الموحدة الأولى ‏(‏من شئت‏)‏ من الخلق ‏(‏فإنك مفارقه‏)‏ بموت أو غيره وما من أحد في الدنيا إلا وهو ضعيف وما بيده عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة قال الغزالي للقصد بهذا تأديب النفس عن البطر والأشر والفرح بنعيم الدنيا بل بكل ما يزايله بالموت فإنه إذا علم أن من أحب شيئاً يلزمه فراقه ويشقى لا محالة بفراقه شغل قلبه بحب من لا يفارقه وهو ذكر الله فإن ذلك يصحبه في القبر فلا يفارقه وكل ذلك يتم بالصبر أياماً قلائل فالعمر قليل بالإضافة إلى حياة الآخرة وعند الصباح يحمد القوم السرى فلا بد لكل إنسان من مجاهدة فراق ما يحبه وما فيه فرحه من أسباب الدنيا وذلك يختلف باختلاف الناس فمن يفرح بمال أو جاه أو بقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الإتباع في التدريس والإفادة يترك أولاً ما به فرحه ثم يراقب الله حتى لا يشتغل إلا بذكر الله والفكر فيه ويكف عن شهواته ووساوسه حتى يقمع مادتها ويلزم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا الموت‏.‏ قيل صاح طوطي بحضرة سليمان فقال تدرون ما يقول قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول كل حي ميت وكل جديد بال‏.‏ وقال النسر يقول في صياحه يا ابن آدم اعمل ما شئت آخرك الموت ‏(‏واعمل ما شئت‏)‏ من خير ‏(‏فإنك مجزي به‏)‏ بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الزاي وشد المثناة تحت أي مقضى عليك بما يقتضيه عملك وبضم الميم وفتح الزاي منوناً أي مكافأ عليه‏.‏ ولما ذكر الموت والمجازاة وخوف بما علم منه أن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره أردفه ببيان أعظم نافع من تلك الأهوال فقال ‏(‏واعلم‏)‏ بصيغة الأمر إفادة لغير ما علم للدلالة على أنه تعلم وعلم لأن العلم لا يتم حتى يصل إلى الغير فيجمع فضل العلم والتعليم ذكره الحراني ‏(‏أن شرف المؤمن‏)‏ رفعته قال الزمخشري من المجاز لفلان شرف وهو علو المنزلة ‏(‏قيامه بالليل‏)‏ أي علاه ورفعته إحياء الليل بدوام التهجد فيه والذكر والتلاوة وهذا بيان لشيء من العمل المشار إليه بقوله اعمل ما شئت، ولما كان الشرف والعز أخوين استطرد ذكر ما يحصل به العز فقال ‏(‏وعزه‏)‏ قوته وعظمته وغلبته على غيره ‏(‏استغناؤه‏)‏ اكتفاؤه بما قسم له ‏(‏عن الناس‏)‏ أي عما في أيديهم ولهذا قال حاتم لأحمد وقد سأله‏:‏ ما السلامة من الدنيا وأهلها‏؟‏ قال‏:‏ أن تغفر لهم جهلهم وتمنع جهلك عنهم وتبذل لهم ما في يدك وتكون مما في أيديهم آيساً قال الغزالي‏:‏ ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان ففي القناعة العز والحرية ولذلك قيل استغن عمن شئت فأنت نظيره واحتج إلى من شئت فأنت أسيره وأحسن إلى من شئت فأنت أميره وقال بعضهم‏:‏ الفقر لباس الأحرار والغنى بالله لباس الأبرار والقيام انتصاب القامة ولما كانت هيئة الانتصاب أكمل هيآت من له القامة وأحسنها استعير ذلك للمحافظة على استعمال الإنسان نفسه في الصلاة ليلاً فمعنى قيام الليل المحافظة على الصلاة فيه وعدم تعطيله باستغراقه بالنوم أو اللهو قال الزمخشري‏:‏ قام على الأمر دام وثبت‏.‏ وقد تضمن الحديث التنبيه على قصر الأمل والتذكير بالموت واغتنام العبادة وعدم الاغترار بالاجتماع والحث على التهجد وبيان جلالة علم جبريل وغير ذلك قال الغزالي‏:‏ جمعت هذه الكلمات حكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأمل فيها طول العمر إذ لو وقف على معانيها وغلبت على قلبه غلبة يقين استغرقته وحالت بينه وبين النظر إلى الدنيا بالكلية والتلذذ بشهواتها وقد أوتي المصطفى صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة

- ‏(‏الشيرازي في‏)‏ ‏[‏ص 103‏]‏ كتاب معرفة ‏(‏الألقاب‏)‏ والكنى عن إسماعيل عن زافر بن سليمان عن محمد بن عيينة عن أبي حازم عن سهل بن سعد

‏(‏ك‏)‏ في الرقاق من طريق عيسى بن صبح عن زافر ‏(‏هب‏)‏ من طريق محمد بن حميد عن عيسى بن صبح عن زافر عن ابن عيينة عن أبي حازم ‏(‏عن سهل بن سعد‏)‏ بن مالك الخزرجي الساعدي قال الحاكم صحيح وأقره الذهبي في التلخيص مع أن زافر أورده هو وغيره في الضعفاء ولهذا جزم الحافظ العراقي في المغني بضعف الحديث قال‏:‏ وجعله بعضهم من كلام سهل ومراد القضاعي ‏(‏هب‏)‏ من طريق أبي داود الطيالسي عن الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير ‏(‏عن جابر‏)‏ ابن عبد الله ‏(‏حل‏)‏ عن محمد بن عمر عن محمد بن الحسن وعلي بن الوليد قالا‏:‏ حدثنا علي بن حفص بن عمر عن الحسن ابن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه عن علي بن الحسين عن الحسن ‏(‏عن علي‏)‏ أمير المؤمنين وزاد في هذه الرواية فقال صلى الله عليه وسلم لقد أوجز لي جبريل في الخطبة قال ابن حجر في أماليه أخرجه الحاكم من طريق عيسى بن صبح عن زافر وصححه والبيهقي من طريق ابن حميد عن زافر قال‏:‏ أعني ابن حجر تفرد به بهذا الإسناد زافر وماله طريق غيره وهو صدوق كثير الوهم والراوي عنه فيه مقال لكن توبع قال‏:‏ وقد اختلف فيه نظر حافظين فسلكا طريقين متناقضين فصححه الحاكم ووهاه ابن الجوزي والصواب أنه لا يحكم عليه بصحة ولا وضع ولو توبع زافر لكان حسناً لكن جزم العراقي في الرد على الصنعاني والمنذري في ترغيبه بحسنه‏.‏

90 - ‏(‏أتاني آت‏)‏ أي ملك أو هو النفث وهو ما يلقيه الله إلى نبيه إلهاماً كشفياً بمشاهدة عين اليقين ‏(‏من عند ربي‏)‏ أي برسالة بأمره وأطنب بزيادة العندية إيذاناً بتأكد القضية ‏(‏فخيرني‏)‏ في الآتي عن الله وعبر بالرب المشعر بالتربية والإحسان والامتنان وتبليغ الشيء إلى كماله لأنه أنسب بالمقام ‏(‏بين أن يدخل‏)‏ بضم أوله يعني الله ‏(‏نصف أمتي‏)‏ أمة الإجابة ‏(‏الجنة وبين الشفاعة‏)‏ أي شفاعتي فيهم يوم القيامة ‏(‏فاخترت الشفاعة‏)‏ لعمومها إذ بها يدخلها ولو بعد دخول النار كل من مات مؤمناً كما قال ‏(‏وهي‏)‏ أي والحال أنها كائنة أو حاصلة ويحتمل جعل الواو للقسم أي والله هي حاصلة ‏(‏لمن مات‏)‏ من هذه الأمة ولو مع إصراره على جميع الكبائر لكنه ‏(‏لا يشرك بالله شيئاً‏)‏ أي ويشهد أني رسوله ولم يذكره اكتفاء بأحد الجزأين عن الآخر لعلمهم بأنه لابد من الإتيان بهما لصحة الإسلام فالمراد أنه يكون مؤمناً بكل ما يجب الإيمان به وهذا متضمن لكرامة المصطفى على ربه وأفضاله على أمته ووفور شفقة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قال الحراني‏:‏ وحقيقة الشفاعة وصلة بين الشفيع والمشفوع له لمزيد وصلة بين الشفيع والمشفوع عنده وقال القاضي‏:‏ الشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فرداً فجعله الشفيع شفعاً بضم نفسه إليه والشيء على ما قال سيبويه يقع على كل ما أخبر عنه وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص ويجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال وقول الأشاعرة المعدوم ليس بشيء معناه ليس يتميز في الأعيان‏.‏ ثم إنه ليس لك أن تقول هذا يناقضه ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك ولكن وعزتي وكبريائي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله والمراد بالقائل لا إله إلا الله من مات معتقداً لها فهو الذي مات لا يشرك بالله شيئاً فإذا لم يكن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكيف قال‏:‏ إن هؤلاء تنالهم شفاعة لأنا نقول قد قيد المصطفى صلى الله عليه وسلم من تناله شفاعته مع كونه مات غير مشرك بكونه من أمته والذي جاء فيه أنه ليس إليه غير مقيد بها فحصل التوفيق بأن الذين تنالهم شفاعته هم موحدو أمته والذي استأثر الله به موحدو غيرها كما حرره المحقق أبو زرعة

- ‏(‏حم عن أبي موسى‏)‏ عبد الله بن قيس ‏(‏الأشعري‏)‏ قال‏:‏ غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم فعرس بنا فانتهيت ليلاً لمناخه فلم أجده ‏[‏ص 104‏]‏ فطلبته بارزاً فإذا رجل من أصحابي يطلب ما أطلب فطلع علينا فقلنا‏:‏ أنت بأرض حرب فلو إذ بدت لك حاجة فقلت لبعض صحبك فقام معك فقال‏:‏ سمعت هزيزاً كهزيز الرحى وحنيناً كحنين النحل وأتاني آت إلى آخره فكان ينبغي للمؤلف ذكره بتمامه في حرف السين قال الهيتمي‏:‏ رجال أحمد ثقات ‏(‏ت حب عن‏)‏ أبي حماد ‏(‏عوف‏)‏ بفتح فسكون ‏(‏ابن مالك‏)‏ بن عوف الغطفاني ‏(‏الأشجعي‏)‏ نسبة إلى أشجع قبيلة مشهورة صحابي كانت معه راية أشجع يوم الفتح نزل حمص وبقي إلى أول خلافة عبد الملك‏.‏

91 - ‏(‏أتاني آت من عند ربي عز وجل فقال من صلى عليك من أمتك‏)‏ الإضافة للتشريف قال الحراني‏:‏ الصلاة الإقبال بالكلية على أمر فيكون من الأعلى عطفاً شاملاً ومن الأدنى وفاء بانحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي ‏(‏صلاة‏)‏ أي طلب لك من الله دوام التشريف ومزيد التعظيم ونكرها ليفيد حصولها بأي لفظ كان لكن الأفضل ما في الصحيح قولوا اللهم صل على محمد وقال من صلى دون من ترحم إيذاناً بأنه لا يدعى له بالرحمة كما في الاستذكار وإن كانت بمعنى الصلاة عند كثيرين لأنه خص بلفظها تعظيماً فلا ينبغي إطلاقها عليه إلا تبعاً للصلاة أو السلام كما في التشهد ‏(‏كتب الله‏)‏ قدر أو أوجب أو في اللوح أو في جبينه أو في صحيفته وعلى ما عدا الأولين فإضافة الكتابة للذات المتعالية للتشريف إذ الكاتب الملائكة ‏(‏له بها عشر حسنات‏)‏ أي ثوابها مضاعفاً إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لأن الصلاة ليست حسنة واحدة بل حسنات إذ بها تجديد الإيمان بالله أولاً ثم بالرسالة ثم بتعظيمه ثم العناية بطلب الكرامة له ثم بتجديد الإيمان باليوم الآخر ثم بذكر الله ثم بتعظيمه بنسبتهم إليه ثم بإظهار المودة ثم بالابتهال والتضرع في الدعاء ثم بالاعتراف بأن الأمر كله لله وأن النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره مفتقر إلى رحمة ربه فهذه عشر حسنات قال الراغب‏:‏ والحسنة يعبر بها عن كل ما يسر من نعمة ينالها الإنسان في نفسه وبدنه ومتعلقاته سميت به لحسنها والسيئة تضادها وهما من الألفاظ المشتركة كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة قال الحراني‏:‏ والعشرة بعدها الآحاد في أوله وقال القاضي‏:‏ أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد ‏(‏ومحا‏)‏ أزال يقال محوته محوا ومحيته محيا أزلته وذلك بأن يمحوها من صحف الحفظة وأفكارهم ‏(‏عنه عشر سيئات‏)‏ جمع سيئة أي قبيحة سميت به لسوئها لصاحبها والفرق بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ ذكره القاضي ‏(‏ورفع له‏)‏ في الجنة ‏(‏عشر درجات‏)‏ رتباً عالية فيها والدرجات الطبقات من المراتب قال الزمخشري‏:‏ من المجاز لفلان درجة رفيعة ‏(‏ورد عليه مثلها‏)‏ أي رحمة وضاعف أجره نقله النووي عن عياض ثم قال‏:‏ وقد تكون الصلاة على وجهها وظاهرها كلاماً تسمعه الملائكة تشريفاً وقال ابن القيم‏:‏ ليست الصلاة مرادفة للرحمة لعطفها عليها ولأن صلاته خاصة بخواصه ورحمته وسعت كل شيء، نعم الرحمة من لوازمها فمن فسرها بها فقد فسرها ببعض لوازمها وما ذكر في هذا الخبر يدل عليه إذ صلاة العبد على النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة الله عليه من جنسها بل ثناء عليه والجزاء من جنس العمل فمن أثنى على رسوله جازاه بمثل عمله بأن يثني عليه فصح ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له فيا لها من بشارة ما أسناها‏.‏ وظاهره حصول الثواب الموعود وإن لم تقترن الصلاة بسلامة فيشكل على نقل النووي كراهة الإفراد وحصوله مع قرب المصلى عليه وبعده وأنه لا مزية للصلاة عند قبره عليها من بعد لكن ذهب بعضهم إلى أنها عند قبره أفضل

- ‏(‏حم‏)‏ وابن أبي شيبة ‏(‏عن أبي طلحة‏)‏ زيد بن سهل الأنصاري قال‏:‏ دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأسارير وجهه تبرق فقلت‏:‏ ما رأيتك بأطيب نفساً ولا أظهر بشراً من يومك قال‏:‏ ومالي لا تطيب نفسي ويظهر بشري ثم ذكره، رمز المصنف لصحته

‏[‏ص 105‏]‏ 92 - ‏(‏أتاني ملك برسالة‏)‏ أي بشيء مرسل به ‏(‏من الله‏)‏ وفي رواية من ربي ‏(‏عز وجل‏)‏ يقال حملته رسالة إذا أرسلته للمرسل إليه بكلام وراسله في كذا وبينهما مكاتبات ومراسلات وتراسلوا وأرسلته برسالة وأرسلت إليه أن افعل كذا ذكره الزمخشري والمراد هنا الوحي ولعله مما لم يؤمر بتبليغه وقد جاءه بالوحي جبريل وغيره لكن جبريل أكثر ‏(‏ثم رفع رجله‏)‏ بكسر فسكون العضو المخصوص بأكثر الحيوانات ويفهم منه أنه أتاه في صورة إنسان والرفع الاعتلاء ذكره الراغب ‏(‏فوضعها فوق السماء‏)‏ وفي رواية السماء الدنيا ‏(‏والأخرى في الأرض‏)‏ قال الراغب‏:‏ الأرض الحرم المقابل للسماء ويعبر بها عن أسفل الشيء كما يعبر بالسماء عن أعلاه ‏(‏لم يرفعها‏)‏ تأكيد وتحقيق لما قبله ودفع لتوهم إرادة التجوز لبعده عن الأفهام واستعظامه بين الأنام والقصد بذلك بيان عظم خطوته المستلزم لعظم جثته وأن مسافة خطوته كما بين السماء والأرض، والملائكة عند عامة المتكلمين أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة وعند الحكماء جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة وهو قسمان قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الشغل بغيره وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القدر لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون كما مر وقد جاء في عظم الملائكة ما هو فوق ذلك فقد ورد‏:‏ إن لله ملكاً يملأ ثلث الكون وملكاً يملأ ثلثيه وملكاً يملأ الكون كله لا يقال إذا كان يملأ الكون كله فأين يكون الآخران لأنا نقول الأنوار لا تتزاحم ألا ترى أنه لو وضع سراج في بيت ملأه نوراً فلو أتينا بعده بألف سراج وسع البيت أنوارها ذكره العارف ابن عطاء الله عن شيخه المرسي وقد قصر نظر من عزاه لجامع هذا الجامع ‏.‏